أ ـ كان نبياً قبل أن يكون رسولاً :
قضى المصطفى محمد بن عبداللّه(صلى الله عليه وآله) ثلثي عمره الشريف نبياً لم يؤذن له من قبل اللّه عزوجل بدعوة الناس إلى رسالته ، ولم يعلن عن نبوته المباركة طوال تلك السنين :
«اعلم : ان الطائفة قد اجتمعت على أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كان رسولاً نبياً مستخفياً يصوم ويصلي على خلاف ما كانت قريش تفعله مذ كلفه اللّه تعالى ، فإذا أتت أربعون سنة ، أمر اللّه عزوجل جبريل(عليه السلام) أن يهبط بإظهار الرسالة ، وذلك في يوم السابع والعشرين من شهر اللّه الأصم»([43]).
ولهذه الحقيقة أشار أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في حديث له جاء فيه : «ولقد قرن اللّه به من لدن ان كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم : ليله ونهاره»([44]) .
حتى إذا نزل عليه جبريل بمطالع سورة المدثر المباركة في اليوم السابع والعشرين من رجب المرجب (يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر..)باشر عملية دعوة الناس إلى عبودية اللّه عزوجل حيث بُعث إلى الناس كافة واُذن له بالتبليغ .
ويلاحظ من حقائق السيرة النبوية المطهرة ، أن النبي(صلى الله عليه وآله) ـ ولأهداف استراتيجية ـ كان مأموراً أن يطلع ابن عمه وربيبه علي بن أبي طالب(عليه السلام)على التطورات التي كانت تجري له قبل نزول القرآن الكريم وبعده أولاً بأول ، وشاركته في ذلك السيدة خديجة ، حيث أشار الامام علي(عليه السلام) لذلك بقوله :
«.. وقد علمتم موضعي من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسني جسده، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل . ولقد قرن اللّه به ـ (صلى الله عليه وآله) ـ من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره .
ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وخديجة ، وأنا ثالثهما أرى نور الوحي ، وأشم ريح النبوة ، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه(صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته ، انك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ انك لست بنبي ، ولكنك لوزير وإنك لعلى خير ..»([45]) .
هذا ، وقد بذل المرحوم المبرور الشيخ محمد باقر المجلسي(رحمه الله)وسعاً من أجل دراسة هذه المسألة العقائدية ـ التاريخية الحساسة ، وساق الكثير من الأدلة والشواهد المتينة من الكتاب والسنّة على أن رسول اللّه محمد بن عبداللّه(صلى الله عليه وآله) كان نبياً منذ صغره مؤيداً بروح القدس ، يكلمه الملك ، ويسمع صوته ، ويتعبد بشريعته هو لا بشريعة رسول آخر .
حتى إذا بلغ الأربيعن من عمره الشريف جرى له التحول النوعي الآخر في المهام والأهداف فبعثه اللّه عزوجل رسولاً ، ونزل عليه القرآن الكريم، وأمره ربه عزوجل بدعوة الناس إلى رسالته([46]) .
________________________________________
([43]) روضة الواعظين للشهيد الفتال النيسابوري: 62 منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات .
([44]) نهج البلاغة خطبة رقم 192.
([45]) م . ن .
([46]) راجع هذا البحث القيم الموثق في بحار الأنوار 18 : 271 ـ 281.